|
عبد البصير عيد في روايته (الساحرة في رواق الزاوية)، تجاوز مصعب البدور النصّ السرديّ المألوف، إلى صياغة تجربة روحية متكاملة في هيئة رواية تسعى في جوهرها إلى مساءلة العالم عن المستقبل واستشرافه، ومفارقات الذات بين الاستقامة والانحراف. إنها ليست رواية اعتيادية، بل سرديّة لها قدرة على التنقيب عن الروح وأسرارها ونفاذها والذي جسدته الرواية في روح (عبير)، وليست حكاية تُروى، بل كشف يُعاش ويُرى علنًا ولك في رسوم المنذر دليل على الكشف الصوفي. بعد هذه المستهلات تكتشف أنّك على متن رحلة تستدرج القارئ إلى فضاءات مفتوحة بين ما يُقال فيتركك في حيرة مثل حوار (بركة) والشيخ (أبي عبّاد)، وما يقال فيلهم كوصايا (أبي عباد) ورسائل (المنذر)، ثم تجد نفسك بين النص كلغة، وبين النص كطقس وجودي. منذ الصفحات الأولى، يجد القارئ نفسه في مواجهة كتابة تفتح أبواب السؤال عليك أكثر من كونها تقرر حدثا، وتوحي بالغموض على الصعيد الواعي لبنية الرواية وعلى الصعيد الباطن للفكرة الصوفية. اللغة هنا ليست نافذة تطل على الواقع، بل مرآة مصقولة تعكس عمق الداخل في النفوس، وتتواصل مع الخارج في واقع الحياة. وتجد القارئ لا يُمسك بخيوط الرواية دفعة واحدة، بل يتلمّسها كما يتلمّس العارف طريقه في ليل مليء بروحانية ظاهرة، فيصير كل مشهد ظلًا لمشهد أعمق، وكل حوار يشفّ عن خطاب داخليّ مضمَر. (رواق الزاوية) أو ثيمة المكان في الرواية ليس مكانًا سرديًّا فحسب، بل فضاء كونيّ تتجلّى فيه الرؤى، وتتقاطع عند عتبته الأزمنة والرموز. فهي مقام صوفي تتكثف فيه لحظات الكشف، وتتلاشى فيه الحدود بين الواقعيّ والمتخيل، بين الزمن الخطي والزمن الباطني. (والساحرة) في المقابل، لا تُقدَّم بوصفها شخصية تُروى، بل ككائن رمزي، محمّل بأعباء الحكمة، وبتجليات الضياع، إنه الإنسان وقد عبر نوافذ المقاصد والحكم وترك وراءه المعنى المجرد، فصار بين القدرة على تأويل الظاهر والقدرة على الفهم العميق. ويتكشّف ذلك في أكثر من موضع كما جاء في الرواية منها «الرياح العاوية في كهوف جوانياتنا تصرح بما يعجز عنه اللسان» ليصير المتلقي بين سردية رمزية وبين حقيقة ظاهرة للتعبير. يتزود النص من منابع التصوف لا باعتباره موضوعًا، بل منبعًا للكتابة نفسها، فالسرد يتخذ هيئة الذكر والتكرار الموارب، تصعيد دائري السرد في حركة الدراما وكذلك تصعيد في فكرة الصوفية، وللدراما تجليات حقيقية في النّص، نستطلعه في (ثبات الدراويش بعد وفاة أبي عباد) وفي (أحوال المنذر والعقبات التي تواجهه)، فتواجهها كقارئ كونها إيحاء أكثر من تقرير، وتجلّيات صوفية أكثر من تحليل لحدث قائم. الشخصيات في الرواية ليست كيانات، بل أطياف تسري في الزاوية (دار العبادة والذكر عند الصوفية)، تتحدث وتبتهل، تتذكر وتنسى، تبحث عن سرّ لم يُكشف بعد، فما سّر (المنذر)؟ وكيف قرأ الشيخ (الصالحاني) حالة (المنذر)؟ وقد لا يُكشف السرّ أبدًا ليبقى بابا للنّص على عالم لا متناه من التوقعات. ويتجلى تجاوز الأشخاص الكيانات الطبيعية إلى عالم الأرواح في علاقات أبطال العمل، كتلك الموجودة في لوحات منذر يرسم المستقبل فيتحقق، ألم يرسم سلام فبيّن حقيقتها، ورسم بشارةً بسعد وإذا به ابن لبركة وعبَّاد، وكشفت لوحاته عن نوار ولوّن جوهرها بعبير. أمّا على المستوى الفني، فإنّ مصعب البدور يتقن اللعب على تعدد مستويات التلقي: فالرواية تُقرأ كحكاية، وتُتأمّل كنص معرفي، وتُلامس العقول كنص صوفي باطن. وهي بهذا تتجاوز التصنيفات الجاهزة للرواية أو القوالب التقليدية، وتؤسس لنوع أدبي-روحي يمزج بين السرديات والتأمل، فيدفع قارئه إلى ما وراء الفهم، بل إلى المشاركة في الكشف والتنبؤ بالمستقبل. فيتحول المتلقي إلى شخص من شخصيات الرواية وجوها العام. (إن الساحر ة في رواق الزاوية) عمل تخطّى المتعة الجمالية، إلى اختبار القارئ، فيفرض عليه التأنّي، وتكرار القراءة وإعادة النظر، فتصل به إلى تطهير روحه بالذكر، كأنه أمام نصّ مقدّس يوقظ فيه الحسّ والأسئلة عن كل شيء في استقامة نفس الإنسان، ولا يلتفت إلى إجابتها، فتحمله على أن يكون أكثر من قارئ فيصر «مريدًا» يسلك طريقه عبر اللغة، إلى ما وراء اللغة. بهذه الرواية، يؤكد مصعب البدور أن الكتابة الحقيقية ليست تلك التي تسرد قصّة تصاعدية السرد، بل تلك التي تهمَس في جانب وتصخب في آخر، وتُشعل فيك الشعور، وتُلقي بروحك بين الاستقامة والمنحنيات، وكأن أثر الكلمات في بدايتها هو ذاته الإشارة التي لم تفسرها الساحرة في آخر مشهد من الرواية. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 11-07-2025 08:26 مساء
الزوار: 40 التعليقات: 0
|