|
عبدالرحيم جداية قامت رواية «في قلبي قسامي» للروائي محمود مصلح على بنى ومضامين تبدو خفية، ربما يمر بعض القراء عليها دون وعي عميق من المتلقي، بأن الروائي يشكل روايته بمفاتيح أولى، ص 191-192 مثل: (حتمية المواجهة، وحتمية الانتصار، وحتمية هزيمة هذا الكيان) كنتيجة تاريخية حتمية، شكلت المسار السردي، أهمها حتمية الثورة، وقد ختم محمود مصلح روايته في صفحتها الأخيرة 196 مؤكدا الإرادة الربانية، لتنتهي الرواية بقوله: «الحياة تتسع للجميع». وبالمقابل كانت عائلة هاميرو، تقوم فكرة وجودها فيما يسمى إسرائيل، على وعد وخرافة بحثا عن حياة أفضل، حين دخلت سارة على هاميرو، صفحة 39 وقالت له وهي تلقي رأسها في حجره: «نؤجل الزفاف حتى نبني بيتنا هناك في إسرائيل.. الأرض الموعودة.. دولة خالصة لليهود، لن نجد من يحاربنا، أو يقتلنا، أو يضطهدنا، نعيش بمزرعتنا في سلام وهدوء، ونربي أولادنا كيف نشاء». ليكشف لنا الروائي مدخلا للبحث في حتمية الثورة، هذه الحتمية التي أنشأها محمود مصلح بوعي وهاج، بأسلوب لا يكتشفه المتلقي إلا إذا ربط الأحداث معا. وكان المعادل الموضوعي في فصول الرواية الشيخ قاسم، الذي يعمل في مزرعة عائلة هاميرو، وحاولت ليما إغوائه وترك تلك المستوطنة، وعاد إلى مخيم الشاطئ ليلتقي في صلاة الفجر مع أحد قيادات المقاومة، واندماج الشيخ قاسم مع المقاومة بالتدريب العملي والميداني، والتأهيل النفسي لثورة قادمة لم يكن يعرف وقتها. عند هذا الحد يعتقد بعض القراء بأن حتمية الثورة، هي حتمية الثورة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023م، وهذه الخدعة الفنية انطلت على كثير من القراء فقد نصب محمود مصلح للقراء نفقا روائيا مفخخا، لكن لو أعدنا قراءة الفصول الأولى إلى آخر الرواية، لوجدنا رواية «في قلبي قسامي»، تتحدث عن حتمية الثورة داخل الكيان الصهيوني، وشواهد ذلك إنتحار شلومو في مستوطنة كوسوفيم، كذلك انقطعت يد هاميرو، وأما سارة زوجة هاميرو فقد أصابها الجنون ونقلت إلى مصحة عقلية، وليما بجوازها الألماني تقول لأبيها: «دعنا نترك هذه المستوطنة المشؤومة، ونعود إلى المانيا»، كماحاولت ليما إقناع الشيخ قاسم السفر معهم إلى ألمانيا للابتعاد عن هذا المكان المجنون، وهذا ما أكدته ليما في نهاية الرواية ص 193 في رسالة بعثتها لقاسم تقول فيها: «أخيرا انتهى الكابوس، أكتب لك الآن من مكتب والدي في مدينة هانوفر في المانيا» وتؤكد ليما لقاسم بأنها لا تنتمي لكوسوفيم بقولها: «هربنا، نعم هربنا إلى ألمانيا، كوسوفيم مكان لا ينتمي لنا ولا ننتمي له ، لا يعرفنا ولا نعرفه، نحن من هنا من ساكسونيا هانوفر ألمانيا مثلما أنت من فلسطين غزة مخيم الشاطىء». ويؤكد محمود مصلح على لسان هاميرو بقوله بثورة نفسية داخلية: «إن هذه المستوطنات لخدمة الاشكيناز، فما حاجتنا نحن السفارديم للإقامة مع الاشكيناز هؤلاء هم الذين يعتبروننا خط الدفاع الأولي عنهم، يستخدموننا كدروع بشرية ضد هجمات العرب في أي حرب»، هذه المقولة تؤثث معركة داخلية بين اليهود السفارديم الذين يشعرون بالدونية، والاشكيناز الذين يعيشون في تل أبيب مرفهين بعيدين عن الحرب، فكل هذه المعطيات قدمتها رواية في قلبي قسامي لحتمية الثورة داخل المجتمع الإسرائيلي الصهيوني. كما أثارت الرواية «في قلبي قسامي» إضافة إلى حتمية الثورة سؤالا عميقا، يقول في ص 61 «هل توجد حرب عادلة؟» وهذا السؤال يجيب عنه الغزيون والمقاومة وسائر فلسطين «نعم حربنا مع الكيان الصهيوني حرب عادلة»، ويعلل ذلك أحد رجال المقاومة في نفس الرواية بقوله: «كيف لشعبنا أن يتحرر إذا لم يأخذ دروسا من الشعوب التي ناضلت ضد الإستعمار وحررت أوطانها». إن حتمية الثورة حتميتان، الأولى حتمية الثورة الفلسطينية، واستمرارها عبر الأجيال حتى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر ، أما الحتمية الثانية للثورة التي ستأتي من فهم المكون اليهودي بأشكاله المتعددة، من السفارديم والاشكيناز والفلاشا، بأنهم يناضلون لقضية ليست قضيتهم، لأن كل واحد منهم يحمل جوازا آخر إضافة إلى الجواز الإسرائيلي، مستعدا للهزيمة والفرار من نظم الإستبداد الصهيوني في إسرائيل، فقضية هذه الطوائف الصهيونية هي قضية ما يسمى بالذكر البائس، حينما يحلق ذكر نحل من خليته فيلقح ملكة النحل من خلايا أخرى، ويموت دون قضية يدافع عنها، فهذا ما احست به الطوائف اليهودية بأنها تموت لقضية ليست قضيتهم. البوليفونية وجوانية السرد: تعد البوليفونية من التقنيات الروائية في السرد الروائي، التي تناولها الدكتور نبيل حداد في محاضراته في جامعة اليرموك، إذ تتناوب الأصوات وتتكامل في البناء الروائي بعيدا عن الراوي العليم، حيث استفاد محمود مصلح في روايته «في قلبي قسامي» من هذه التقنية، حيث برز صوتا قاسم وليما ابطالا رئيسيين، وشخصيات دائمة الوجود متحركة ومعبرة عن الحدث في مضمون المقاومة الفلسطينية، حيث أفاد منها الروائي في سرديات ما كان يعرفها إلا قاسم في بعض الفصول، مثل الأنفاق والتنظيم الفدائي، كما أفاد الروائي من صوت وشخصية ليما في اختبار مواطن الضعف والتشتت والتفرقة في الكيان المستعمر على هيئة شركة، ولم تكن يوما ما تلك الشركة الصهيونية دولة على أرض فلسطين. إن التقنية البوليفونية صعبة ومعقدة، ولكن الروائي أخذ منها بقدر ما تحتاج الرواية، ولم تكن تجربة محمود مصلح مجانية في التجريب التقني، بل قدمت لنا بكلا الصوتين الفلسطيني والصهيوني تقنية الحوار والنقاش وعرض وجهات النظر، وصولا إلى جدليات وديالكتيك لم يمنع به العدو من تقديم رأيه وفلسفته، فكان الروائي محمود مصلح منصفا، إذ اعطى الخصم اللدود والعدو القاتل فرصة الدفاع عن نفسه، حيث حملت الرواية محكمة يتناظر بها الخصمان، لتكون البوليفونية انصافا للمقاومة الفلسطينينة والدفاع عن حقها المشروع عن أرض فلسطين، مما شكل روحا مدنية وإنسانية في الرواية، بديلا للقتل الهمجي الصهيوني والاغتيالات المبرمجة من قبل ذلك الكيان، وترك الروائي مساحة الحكم للقاضي في هذه الرواية، وهم القراء على اختلاف أطيافهم. جماليات اللغة والسرد: امتازت الرواية بلغتها السردية الجذابة، فبين السرد والوصف تنبعث اللغة مضيئة، فالرواية ليست مجرد ترتيب كلمات، بل هي علاقة جمالية بين السرد والوصف، وعلى الرغم من بساطة اللغة في بعض سطور الرواية ومباشرتها في سطور أخرى، إلا أن تجليات السرد والحكمة ظهرت على شكل مقولات أبدعها الروائي محمود مصلح مثل قوله في ص 78-79:»البحار والصياد بطبعه شجاع، صبور، قوي، مغامر، صلب يمتلك روحا وثابة، علمه البحر كيف يكون أخا للموج، صديقا للريح، وفيا للبحر» وفي سرده الروائي يمزج الروائي الفصحى بالعامية، لتكون العامية أكثر مصداقية حين تأتي على لسان تلك الأم الفلسطينية التي عرفت برجاحة عقلها، أن غياب قاسم لمدة ستة أشهر لم تكن عبثا، بل كان الغياب لسبب جليل، وهو انضمام الشيخ قاسم إلى المقاومة، وعند عودته لبيته ولحضن أمه، قالت له ص 70: «يعني الأسابيع التي كنت تغيبها كنت معهم..قلت أيوا ، اذا انا ما أكون معهم والثاني ما يكون مين لازم يكون.. لا يما..كيف لازم كل شبابنا يكونوا مع المقاومة». وقد استفاد بلغته السردية من شعارات المقاومة التي انتشرت بين الشباب في غزة، فانتشرت فكرة المقاومة بالمفهوم الثوري والمفهوم النضالي، فانتجت هذه الحالة السردية شعارا استهل به فصل بعنوان «عامل قسامي» - ويقصد به قاسم بطل الرواية - ص 47 وهذا الشعار هو(عار عليك أن تحني رأسك لعدوك). ومن الجمل المعبرة في رواية «في قلبي قسامي» تعبيره المركب بين الحنين والماضي والواقع، إذ نسج عبارة سردية تحلق بين الجمال والحكمة بقوله ص 37: «الحنين للماضي يأخذنا رغما عنا من الواقع مهما كان الواقع جميلا». الخاتمة: إن أدب المقاومة الفلسطينية متجذر في فنون الأدب، ومن أبرز شعراء المقاومة: عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي «أبو سلمى»، إبراهيم طوقان، هارون هاشم رشيد، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، خليل زقطان، معين بسيسو، فدوى طوقان، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، خالد أبو خالد. كما ساهمت الرواية في أدب المقاومة من غسان كنفاني، وإبراهيم نصرالله، وعاطف أبو سيف، وعلى فودة صاحب رواية «الفلسطيني الطيب»، واسماء ناصر صاحبة رواية « فدائي عتيق» وبكر سباتين صاحب رواية «صخرة نيرموندا» واستمرت الأجيال في روايات صبحي الفحماوي، وصولا إلى أسرى يكتبون في السجون الصهيونية وأشهرهم باسم خندقجي صاحب رواية «قناع بلون السماء»، التي فازت بجائزة البوكر، والقائمة تطول بوجود مبدعين قدموا اسهاماتهم الروائية، مثل: رواية «في قلبي قسامي» للروائي محمود مصلح، الذي ادخر ما يزيد عن ثماني عشرة رواية طبع منها روايتين، والباقي قيد الطبع. حيث سيبقى الأدب الفلسطيني مصدر قلق لكيانات كرتونية تنسفها هبة ريح، لأن الأرض كالفرس تعرف فارسها، كما وتبقى الرواية وثيقة تاريخية إبداعية في يد الطفل الفلسطيني كلما تعاقبت الأجيال. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-04-2025 12:45 صباحا
الزوار: 31 التعليقات: 0
|