أ. د. سلطان المعاني يأتي العدد الثامن من مجلة الجياد الثقافية ليعكس مشهداً عربياً ثرياً بالأسئلة والتحولات والهموم، عبر باقة من المقالات والنصوص الأدبية والشعرية والدراسات النقدية التي تتقاطع فيها التجارب الفردية مع الأسئلة الجمعية للأوطان والأجيال. تتصدر المجلة دعوة تأملية للسفر في أعماق الذات، حيث تتقاطع براءة الطفولة مع حكمة التجربة، وتتجلى القوة في القدرة على الترميم الذاتي والنجاة من الشخصيات السامة، في مشهد رمزي يختبر فيه الإنسان صلابته أمام سيول الحياة، ويختار موقعه بين البطولة والهامش، بين البقاء ذكرى عابرة أو نقش خالد في الزمن. وتبرز قصائد المجلة بصوت عطش الوجود وأشواق العاشقين، حيث يتردد صدى البحث عن المعنى وسط مواسم الاغتراب والانبعاث، ويتهجى الشعراء جدلية الجدب والخصب في الحياة، بينما تحمل القصائد نبرات من الحنين والانكسار والأمل، فكل نص يزرع في القارئ سؤالاً جديداً حول الذات والزمن والمكان. ويحتل التحليل النقدي مساحة معتبرة في العدد، حيث تقدم بلقيس عثامنة قراءة سيميائية وإنسانية في ديوان «وأنت شبيه أمنيتي» للشاعر وليد أبو طير، متتبعة الخطاب الإنساني والوجودي في شعره، واستحضار الوطن بوصفه معشوقة تتجسد في قصيدة «تونس»، حيث تلتقي الرمزية بالوجد الوطني، وتتداخل تونس مع القدس لتشكّل صورة لوحدة المشاعر العربية المتجاوزة للجغرافيا. وتستكمل المجلة هذا الحضور بقراءات نفسية واجتماعية لقضايا معاصرة، إذ تفتح ملف المخدرات الرقمية وتداعياتها على الصحة النفسية للشباب، وتسرد تجربة صحفية في توعية المجتمع بهذا الخطر المستجد، مشيرة إلى أبعاد الجريمة المنظمة ودور الإعلام في المواجهة، وضرورة الشراكة بين المؤسسات لمجابهة هذه الموجة التي تستهدف الوعي الجمعي. وتطل نصوص المجلة على الوجع العربي الراهن عبر استذكار المكان وتجربة الفقد في ظل الحروب والنزوح، كما في قراءة عبد السلام العابد لرواية «وجوه في الماء الساخن» لعبد الله تايه، حيث تتجلى غزة بمدنها وقراها وأبطالها بين زمنين؛ ماضٍ يعج بالحياة وحاضر أطبق عليه الدمار والتشرد. كما تتوالى في العدد نصوص شعرية ونثرية تلتقط خيبات الإنسان العربي وتطلعاته، فيجد القارئ بين السطور رسائل عن الأمومة والوطن، وتوقاً للصفاء بعد العاصفة، وحنيناً لأزمنة البراءة والدفء في وجه قسوة الواقع. ويمتد النقاش ليشمل ظواهر اجتماعية ونفسية، مثل أزمة الحدود بين الجغرافيا والتاريخ، وتحولات الهويات الوطنية، وانعكاس العنف والإدمان على الأجيال الصاعدة، إذ تستدعي المجلة خبرات الكتّاب لتقديم تأملات عميقة حول سبل النجاة من الانهيار، والبحث عن المعنى في زمن التشظي. بهذا التنوع في الأصوات والأساليب، يقدم العدد الثامن من مجلة الجياد لوحة بانورامية للراهن العربي، حيث تتآلف الحكاية الفردية مع الحلم الجماعي، ويتجدد سؤال الهوية والمصير في ظل عالم سريع التحول، لتظل الكلمة هنا مساحة للحوار والاعتراف والأمل، وجسراً بين الماضي وأفق المستقبل. ينطوي العدد الثامن من مجلة الجياد على إضافة ثقافية ومعرفية ملموسة تتجلى في اتساع دائرة الموضوعات التي تتناولها المجلة، وتنوع الخطابات والأساليب التي تجمع بين التحليل النقدي، والتجربة الشعرية، والسرد المعرفي، مما يمنح القارئ فسحة للتأمل ويثري ذائقته الأدبية. فالمجلة في هذا العدد تمارس دورها بوصفها فضاءً للحوار المفتوح بين التجارب، إذ تحتفي بالمغامرة الجمالية للنصوص الشعرية وتعيد الاعتبار لسؤال الإنسان والكينونة في زمن القلق والاغتراب. وإذ تحتشد صفحاتها بنصوص من المغرب والعراق واليمن والأردن وفلسطين وغيرها، فإنها تعكس تفاعلاً حياً بين المشرق والمغرب، وتؤسس لجسر معرفي وجمالي يربط بين تجارب شعراء وكتّاب ينتمون إلى بيئات متعددة، لكن يجمعهم قلق السؤال ومخيلة الانبعاث. كما تبرز في هذا العدد قدرة المجلة على استحضار القضايا الراهنة دون الانزلاق إلى المباشرة، فمقاربة موضوع المخدرات الرقمية، مثلاً، جاءت عبر سرد حكائي وتحقيق صحفي مدعم بالتحليل، ما يضفي على الموضوع بعداً معرفياً وتربوياً، ويُبرز حساسية المجلة لديناميات التحولات المجتمعية في ظل ثورة التقنية وتحدياتها الأخلاقية والنفسية. أما على الصعيد الأدبي، فقد حرصت المجلة على انتقاء نصوص تتقاطع فيها الإحالات الثقافية والتجريب الفني، من توظيف السرد الذاتي بظلال فلسفية، إلى قصائد تنبض بتراكيب لغوية رفيعة وصور متجددة تستفز القارئ وتوقظ دهشته، فيتلمس بين السطور أصواتاً شعرية تنهل من التراث وتشق لنفسها مسارات حداثية، ليتحقق بذلك قدر من التوازن بين المحافظة على الجذر العربي وتجديد الذائقة بأساليب معاصرة. بهذه التوليفة، يغدو العدد الثامن من مجلة الجياد بمثابة حوار ثقافي حي، يمس ذائقة القارئ، ويثري معارفه، ويرفع من سقف انتظاراته الجمالية من الأدب والفكر، واضعاً إياه في صميم المشهد العربي المتحوّل. تتجلى أهمية مجلة الجياد في الفضاء العربي عامة وفي الساحة الأردنية خاصة بوصفها منبراً ثقافياً يضطلع بدور مزدوج: فهي من جهة تفتح نافذة واسعة على الإبداع العربي المتنوع، وتجمع بين أقلام من مختلف الجغرافيات والتجارب، فترسخ صورة الأدب بوصفه نسيجاً عابراً للحدود والجهات، ومن جهة أخرى تغرس حضورها كصوت أردني يعبّر عن خصوصية المكان وثرائه الروحي والاجتماعي، ويضيء على القضايا المحلية برؤية تلتقي فيها الأصالة مع الحداثة.