|
أسيد الحوتري رواية «عادوا ولم يعودوا بعد» للروائي موسى سمحان الشيخ عملٌ يُحسب في ظاهره على أدب المقاومة، حيث تتناول موضوع النكبة والشتات، والكفاح المسلح، والانتماء الوطني في ظل واقع مأزوم ومخترق، وتنهل من التاريخ الفلسطيني المعاصر المرّ. لكنها، في بُنيتها العميقة، ليست رواية وطنية فحسب، بل هي رواية نفسية بامتياز، تُدخل القارئ إلى العوالم الداخلية لشخصياتها، وتستخدم أدوات السرد النفسي بشكل مكثف، ما يجعلنا نعيد النظر في تصنيفها ونطرح السؤال: هل هذه رواية عن الوطن أم عن النفس المنفية في الوطن؟ من أبرز السمات النفسية في الرواية اعتمادها على الحوار الداخلي (المونولوج)، حيث تُفتح مساحات للتفكير الصامت والصراع الذاتي، ويُكشف عن الشروخ الداخلية التي يعانيها البطل، لا بوصفه مناضلا خارجيا فحسب، بل كإنسان هش يعيش التمزق والخذلان. يظهر ذلك في قول البطل: «لماذا تلد النساء وتعطي وفلسطين تأخذ، ترى هل ستعطينا يوماً بقدر ما أخذت منا؟» (190). هذا التساؤل الذي يوجهه السارد إلى نفسه لا يحمل إجابة، بل هو تجسيد لانكسار داخلي عميق، ومساءلة قاسية للتاريخ والوطن والقدر، ولمنطق التضحية التي لا مردود لها. إن فلسطين هنا ليست فقط وطنا مغتصبا، بل كيان غامض، يمتص الأحباب دون أن يعيدهم، ويستهلك العمر دون أن يمنح طمأنينة بالمقابل. كما يُستخدم تيار الوعي في الرواية بشكل لافت، ليُظهر تدفق الذاكرة والمشاعر والصور الذهنية بطريقة غير خطية. ففي لحظة عابرة، تنفصل الشخصية عن الواقع وتسبح في عمق الذهن: «تحت الماء... وتذكّر حكمة أمه وهي تضعه في اللجن وتفركه...» (190) هنا لا يُحكى الحدث بسرد تقليدي، بل عبر تدفق الوعي الحسي والذاكري، حيث يستدعي البطل مشهدا من طفولته دون رابط زمني مباشر، ويصبح الماء الذي يغمر جسده الآن هو ذاته ماء الأم التي كانت تغسله، في محاولة باطنية للتطهر من أوساخ العالم وفوضى النكبة. وتتشكل هذه التقنية أكثر وضوحا من خلال التداعي الحر، حيث تترابط الذكريات والانفعالات والصور الحسية دون منطق سببي، وإنما بتسلسل شعوري خالص. يظهر ذلك في المقطع ذاته: تحت الماء ورذاذ الدش العتيق... تذكر حكمة أمه وهي تضعه في اللجن وتفركه... نعم حب البلاد ولا شيء سواه...» (190). في هذا المشهد، ينتقل البطل من الإحساس بالماء إلى صورة الأم، ومنها إلى حب البلاد. لا رابط منطقي بين هذه العناصر، لكنها في عمق النفس متشابكة، تحكمها قوانين الحنين والانكسار، والتماهي بين الجسد والذاكرة والوطن. ولعل من أبرز الأدوات التي تُعزز الطابع النفسي في الرواية هو الوصف الحسي العاطفي. إذ لا تكتفي الرواية بسرد الوقائع، بل تغلفها بإحساس داخلي يضفي على الأشياء بعدا وجدانيا. ففي مثال شاعري عميق، يكتب: أشجار الصنوبر تعانق الغيوم كذراع أم حانية» (182). إن هذا التشبيه البصري يحوّل الطبيعة إلى أم، والغيمة إلى حضن، في استعارة تنقل مشاعر الفقد والرغبة في الحماية، وتستدعي الحنين العاطفي الذي يطغى على المشهد الخارجي. الغابة ليست غابة فقط، بل انعكاس لحالة داخلية مشحونة بالشوق. ويبرز كذلك الزمن النفسي (الذاتي)، حيث لا تسير الأحداث وفق منطق زمني صارم، بل تتسع اللحظة الواحدة لتحتوي ذكريات وآلامًا وآمالًا، كما لو أن الزمن يتوقف داخل النفس بينما تسترجع رحلة عمر بكاملها. يقول السارد: «آه يا أمي نحن لم نكبر بعد، نحن في أول الدرب...» (182). هذا القول لا يعني فقط الحنين للطفولة، بل هو رفض نفسي لفكرة النضج في ظل النكبة المستمرة، وكأن الفلسطيني يبقى عالقًا في بداية الدرب رغم العمر المتقدم. إنه تجسيد لفكرة الزمن المتجمد داخل النفس، حيث لا معنى للمراحل العمرية طالما أن القضية لم تُحسم، وطالما أن الوطن لا يزال منفىً مؤجلاً. ولأن الرواية لا تكتفي بتحليل النفس المجروحة، بل تحاول أيضاً أن تبني لنفسها سلّم نجاة، فإنها تمتلئ بالحكم والأفكار التي يمكن أن تعد فلسفة مقاومة ذاتية. فالرواية تقول لنا مثلاً: «يمكننا تحمّل أي وضع مهما كان صعباً في ظل وجود بيت له حمام نأوي إليه وعائلة تقف إلى جانبنا ووطن يحتفي بنا»، ثم يردف السارد بصوت يقاوم: «نعم مع التحمل والصبر فكل الأشياء ممكنة غداً» (130–131). في مقطع آخر يؤكد أن «النسيان قاعدة ذهبية شفافة لمن يريد منغصات أقل» (133)، وكأن الرواية تقدم للإنسان الفلسطيني دليلاً نفسياً للنجاة، لا يقل أهمية عن دليل الكفاح المسلح أو السياسي. ولم تغفل الرواية جانب الإخفاقات والتحديات التي واجهت العمل الفدائي الفلسطيني، لكنها لم تتعامل معها من زاوية سياسية مباشرة، بل سلطت الضوء على آثارها النفسية والوجودية. تتحدث الرواية عن ضيق الجغرافيا، وعن غياب الأرض الحاضنة للفعل المقاوم، وعن الاختراقات الأمنية التي جعلت من الثورة فعلاً هشاً في بعض المواقع. كما تعرض الخلافات الفصائلية، والخذلان من بعض القيادات، وتدهور الثقة، وصعوبة التحرك في القدس، وتخلي بعض الأنظمة عن القضية المركزية. إلا أن أكثر ما يلفت هو البعد النفسي لهذه الصعوبات، حيث تقول الرواية بوضوح إن «الصراع الذاتي هو المحك الحقيقي لأي عمل... كلنا بحاجة إلى روافع معنوية متجددة، لئلا نهبط إلى حضيض اليأس» (61 و78). في ضوء كل ما سبق، يمكن القول إن رواية «عادوا ولم يعودوا بعد» أعادت تعريف رواية المقاومة. إنها لا تكتفي بأن تكون صوتاً للبطولة، بل تنصت جيداً للخذلان، للتشظي النفسي، للصوت الداخلي الذي يتساءل ويرتاب ويخاف. موسى سمحان الشيخ لا يصوغ فقط حكاية وطن مسلوب، بل يحكي أيضاً عن ذات مخلخلة، عن ذاكرة جريحة، عن مقاومة تنبع من الداخل قبل أن تتجلى في الخارج. إنها رواية النفس المقاومة بقدر ما هي رواية الأرض، ولهذا فإنها تظل نصاً مفتوحاً على مستويات متعددة من التأويل، وتجربة سردية ناضجة تضعها في قلب الرواية العربية المعاصرة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 11-07-2025 10:58 مساء
الزوار: 31 التعليقات: 0
|