كانت تلك الأرض جنةً لم تطأها قدماي بعد، لا طريق يقودني إليها، ولا خريطة تهتدي بها خطواتي، لكن قلبي عرفها قبل أن تراها عيوني، أحببتها كما تُحب الحكايات العذبة، واشتقت إلى من يحياها، لا كقصة تُحكى، بل كنبض يُعاش!

في زوايا خيالي، عاشت صورة غامضة لها، تشبه القصيدة التي تسكن في جوف الشاعر قبل أن ينسج أبياتها، كانت فكرة مكتملة في الإحساس، ناقصة في الشكل، وددت لو اكتملت، علّ أحدهم يراها كما تخيّلت، ويغرق في معانيها كما غرقت، يُذهل بها كما ذُهلت، ويتأملها بكل تفاصيلها!

لكن كيف تكتمل الصورة في الذهن ما لم تكتمل في الواقع؟! أيستطيع الرسام أن يرسم ملامح لا تشبه أي شيء رآه من قبل؟! لا راوي بصوته، ولا طائر بتغريده، استطاع أن يوصل عذوبة ما أحسسته حين فكّرت فيها، كنت كمن تنشّق عبيرها دون أن يدنو من حدائقها، وارتوى من سحرها دون أن يسمع هديلها!

كنت أعيشها شعورًا، لا حقيقة، ومع ذلك، صعدت روحي إلى سمائها دون أن تتدلّى لي خيوط النور من نجماتها، وكأن سعادتي كانت تكمن فقط في أن أتخيّلها، ألا تسعد النفس أحيانًا بوهمٍ يصير أعذب من الواقع؟!
عشنا كثيرًا في خيالٍ لا وجود له، وتركنا واقعًا كان بين أيدينا، ظمئتُ مرارًا، وفي داخلي كانت تجري جداولها رقراقة، وارتويتُ لحظات، بينما غيري وقف على ضفاف سواقيها لا يلمس منها شيئًا!

كنت كغيري، أقول: "إن اللّه خالق الكون"، لكن حين لاحت لي تلك الجلالة، رأيت أن الجمال الصادق لا يكون إلا من خالق عظيم، يومها انطفأت في نفسي كل زينة زائفة، وذاب كل تمويه اعتدت عليه!

مررت في خيالي على ضفافها، كما يمر الطفل على ليلٍ رقيق، فضحكت الرمال تحت قدميها، وتغنّت المياه بعطر خطواتها. أتيتها وقد أكل الزمن من شبابي، وسرقته الليالي في طياتها، لكن الحب أعاد قلبي إلى الخُضرة، والأمل رد للروح أنفاسها!

سألوني: ما الذي راقك فيها؟ فقلت: كل شيء! ظاهرها وخفيها، ظلها وعمقها، زهورها النامية وذابلة أمانيها, وإن تمنيت، قلت دون تفكير: ليتني طائر يغرّد في أغصانها، أو زهرة تنمو في ترابها!.

ربما غنّى عصفورها نشيدًا عن حبٍّ يشبه حكايتي، ولم يجرؤ أن يحكيه. وربما سكنت روحي عطر بنفسجها، وأرسلت إليها نداءً عبر نسيم السماء. حتى قطرة الماء الصغيرة، رأت في ذوبانها نهاية عالمٍ كامل، وفهمت ما لم تفهمه الكتب!
كل ما رأيته فيها كان جميلاً، لكن الأجمل كان أهلها، وجدتهم أحنّ من النسيم، وأصفى من الغيم. غير أنني، وسط هذا الصفاء، رأيت أرواحًا مظلمة، كذبابٍ يطنّ في فردوس النور! حاولت أن أشيح بنظري، أن لا أفسد على نفسي بهاءها. فالعين، حين تعتاد النقاء، تأبى أن ترى غيره!

دعينا من القبح، ففي هذه الدنيا ما يكفي من الجمال لينسينا كل سُوء، كم مرة حاول الليل أن يطوي نجومه، فإذا بها تُضيء من حيث لا يدري.
وذكّرتني تلك الأرض بكرام القوم، الأنقياء الذين إن مشيتَ بينهم، شممتَ عطر الأقحوان في خُلقهم، يا أبناء وطني، فيكم امتدت خمائلها، ومن روابيكم صعدت إلى السماء!
أنتم العزاء حين يغيب الأحباب، أنتم العِوض في الغربة، ولولاكم، لما استطاعت نفسي أن تتسلّى بفراقها!
أكرمتموني، فلكم شكر لا ينقطع، وشكري دعاء بأن تبقى نعمة محبتكم أبد الدهر!.

ما بعد الوصول،
مرت سنوات، ونضج الحلم كما تنضج الثمار على مهل، لم أعد أبحث عنها في صور الخيال، بل صارت تسكنني، تنمو في داخلي كنبضٍ جديد، لا يهدأ ولا يخبو، لم أطأ أرضها يومًا، لكني أدركت أن بعض الجنّات لا تُمَسّ بالأقدام، بل تُسكن باليقين!

وحين نظرت حولي، رأيت أن الجنة لم تكن في مكان بعيد، بل كانت في كل لمحة جمال صدّقتها، في كلّ بسمة رقيقة من قلب طاهر، في كل روحٍ كرُمت، فأنارت الأرض بمروءتها!

عندها فقط فهمت أن ما كنت أبحث عنه طوال الوقت، كان في داخلي، كان السلام، والسكينة، واليقين الذي جعلني أرى كل شيء أجمل، وأبسط، وأعمق!

فما الجنة إن لم تكن راحة النفس حين تصفو، وطمأنينة القلب حين يرضى، ونقاء العين حين تُبصر الخير في كل شيء؟!
تركت حلمي يسكنني، لا أطارده، فلا أجمل من الحلم حين يتحول إلى إيمان، ولا أصدق من الوداع حين يكون امتدادًا للوصال!

وهكذا، انتهت رحلتي دون أن تنتهي، فما زلت أراها، كلما أغمضت عيني بصدق،
وما زالت الجنة تلك، تنتظرني، كما أنتظرها،
لكن الآن .. كلانا يعرف الطريق!

الكاتبة والأديبة امينة نور
     الجزائر